قراءة عن الاصدار - بقلم الأديبة والشاعرة الكبيرة والكاتبة غادا فؤاد السمان
غادا فؤاد السمّان
نوف بنت محمد " أنثى الضوء"

الموقع الشخصي للشاعرة والأديبة غادة فؤاد السمان


نوف بنت محمد ليست لأنها الأنثى وحسب، بل لأنها الأم والزوجة والصديقة والضوء والحرف والثقة والشغف والبوح والقلم، جاء إصدارها الثالث "لأنها أنثى..!" في طبعته الأولى لسنة 2010- عن دار الانتشار العربي – بيروت، حيث ملمسه الأناقة التي تُحاكي الأنثى التي استهدفتها نوف بنت محمد لتختصر كينونتها بحكم مُطلق على غلاف الإصدار ودون تردّد بالقول "لأنّها أنثى ..! " وهو عنوان لا يخلو من إسناد لذاكرةٍ ماضويّة يحدّدها اللون الأرجواني القاني الذي يختزل تاريخ الوجع في أعماق الأنوثة ودلالات أزمنة النزيف، وفي المقابل تتعقّبها الظلال التي تكتسح الهوامش، وتتوسطها صورة منسوخة لامرأة من ورق اللعب، وقعت على غرار الواقع في قبضة حانية في الشكل، آثمة في المضمون، وهكذا ومنذ الغلاف يصبح الولوج إلى عالم نوف بنت محمد، واعداً بمزيد من الكشف والاكتشاف، كعالم ثريّ بالتجربة، زاخر بالإحاطة، ملمّ، مشتمل، ومفعم بالرفض، محكوم بالغصّة والاكتراث، غصّتها هي، واكتراثها هي بأدق التفاصيل، لأنها ذات روحٍ صافيةٍ لا يمكن أن تشوبها الطلاسم، أو أن يعتريها الغبار، فتحرمها وإن لبُرهةٍ.. ميزة التفرّس فيما حولها، وميزة البحث عن الجدوى فيما تراه، وميزة توظيف كل ما تعلم وتدرك وتعي لخدمة الإنسانية المشتركة بين مختلف الكيانات،
كيان العاشقة كما في "ثالثهما الفراق "، كيان الخائبة كما في " العرف أولى بالاتباع "، كيان الشامخة كما في "عقوق آخر "، كيان البريئة كما في "موت أبيض"، كيان المخدوعة كما في "أخوف من الخوف "، وكيان الطموح في كلّ حرف خطّته نوف بنت محمد الذي تنشده الكيان الأسمى ليسودَ كافة الكيانات الموازية، لأنهنّ بعض كيانها الراقي، الجموح.
بدون ثرثرة فضفاضة وبدون مقدّمات تتوجّه نوف بنت محمد إلى حصّة ونورة السديري فلذتا نبضها لتعلن على الملأ، إهداء المجموعة "لأنها أنثى..! "، وبكثير من السلاسة والعذوبة والتودّد تختزل لهما رسالتها النبيلة، بعيداً عن الوعظ والتلقين والأستذة، حين تقول بصراحة ووضوح :"كونا معي دائما لتكون الحياة أكثر رؤيا "، وبدون أيّة إضافة تختتم لهفتها باسمٍ صريح لا تغلّفه أيّة ألقاب لتكون الأٌقرب إلى قلبيهما ووجدانهما ومسيرتيهما الشابّة الفتيّة.
ولعلّ أبلغ ما يلفتُ في مَلكَةِ البوح عند نوف بنت محمد تلك اللغة المبضعيّة التي تُدرك بحنكةِ الأنثى موضع الورم لدى الآخر، فترسم له خريطة الوهم الذي يعيشه بأقلّ التفاصيل الممكنة، لتتفادى الوقوع في مطبِّ الثرثرة المؤدية إلى الهذيان فتوجز التشخيص على الشكل التالي:
" سماؤه فقاعة.. سرعان ما انفقأت في كونه المعتم...
ماردٌ... قادم من أقبية الشيطان
من دروب الغواية... يقتحم الأزمنة العفيفة..
يتصيّد الأطياف الهائمة..
ثمّ يتجاهل النظر إلى المرآة!.."
ومرآة نوف بنت محمد هنا هي الضمير الغائب عند رجل لا يقوى على مواجهة ذاته، ومحاكاة أفعاله، ومراجعة سلوكيّاته، ومساءلة تصرفاته، ومحاسبة نفسه، لهذا كان لا بدّ لنوف أن تُشهر قلمها من غِمْده، وتغرسه كمبضعٍ حاسم في صميم غطرسته الخبيثة على طاولة تشريح الصفحة 13.
ولأنّ نوف بنت محمد تتقن لغة الاختزال والتكثيف، فهي تملك القدرة على ترويض اللغة لتصير طيّعة، سهلة، حركيّة، مشهديّة، و"حكّاءة "، بتفعيل دور المُضارعة بتواتر لا يخلو من التصعيد الدرامي داخل السيناريو الواحد، كما في المقطع الذي عنونته "الأجوف" حيث تتلاحق المُضارَعَة وتتعاقب في توازٍ وتوازنٍ حيويّ يضفي على المشهد رشاقة مضاعفة على ما فيها من تركيزٍ عالٍ، واختصارٍ لكافّة الزوائد اللفظيّة التي لا عمل لها، وكأنّ نوف تنفض من النصّ كل أشكال الحشو، ليكون صافيا كالماسّ، برّاقا كالكريستال الخالص حيث نتابع:
يقتحم الأزمنة/ يتصيّد الأطياف / ثمّ يتجاهل النظر في المرآة..!
هكذا وبتلك اللغة الرشيقة تضمن نوف بنت محمد استمالة القارئ دون تردد ودون عناء، تستجرّه صفحة تلو الأخرى بأنفاسٍ متلاحقة لا تعرف الملل بل تتمكّن منه، تُحاصره لتصادر ذائقته التي لا يسعها سوى أن تحفل وتحتفي بنصوص نوف، لتواصل عبر النصّ كل ما خفي فيه وما بطن، وما ظهر منه وما علن، مروراً باللغة الحسيّة الوصفيّة كما في الصفحة –25 - /ثمّ يخلع ثوب النفاق وينام عارياً.../، ولا تقف استطاعة نوف التعبيرية عن مكنونها الذاتي عند حدّ إذ تُفاجئك بلغتها الشاعرية السلسة التي تنتقل ببراعة من القصّ المشهديّ، إلى النثري الشعري الذي نلاحظه مترامياً بمهارة عالية على امتداد حقول نوف بنت محمد الأدبية الإبداعية، فتزهر قصائدَ تختلف عمّا سبقها من القصائد، وتثمر حكاياتٍ لم تشبهها سابقاً كلّ الحكايات، ويحار القارئ كيف لا يقع أسير اللغة الشاعريّة، التي تتبدّى ظلالها في الصفحة -21 – كما غيرها في إصدارها الجديد "لأنها أنثى " حين تقول: ( إلى الحنين الذي لا يغفو
إلى الانتظار العالق في مفترق الوقت
أحبّك لعمري ... فكنه معي
جناحاك مدى من ندى
وقربك غيمة تظلل طيفينا
فلم أجد فنّ الحياة بدونك
ولم أتوسّد الحلم لولاك.. )
هذه واحدة من زنابق نوف بنت محمد الشعرية وهي الشاعرة التي بدأت رحلتها الإبداعية بالشعر "النبطي " بمجموعتها الأولى "ظمأ "، التي تُطالعك فيها حرارة الإحساس وصدق العاطفة ودفء الشعور فتدرك من خلال السياق المكتنز بالبلاغة، وسحر البيان وضوح الرؤيا لديها، وربّما يتعذّر عليك التقاط البارقة الدلالية في بعض المفردات ذات اللهجة الغارقة في محلّيتها، وتظنّ أنه بحكم اللهجة المختلفة عن منظومتك قد يغيب عنك شيء من النص، وإذا بينبوع دافق يتفجّر عبر السطور ليقول لكَ أشياء وأشياء.
ولا بدّ من الإشارة الى أن نوف بنت محمد وإن اختلفت لديها الأداة بين نثر أو شعر أو قصّ أو حكاية بين فصيح أو نبطي، فهي ولا شكّ قادرة أن تتشبّث بحريّتها في اغتراف ما تيسّر لها من اللغة التي تُشبهها و"تماهيها "، وتُؤرّقها وتلهيها، وتعصاها وتواسيها، وتنتابها وتحابيها، وتزاحمها وتواريها، وتنافسها وتغنيها، بكل ما في المفارقات من حُسْنٍ يظهر في الضدّ حُسْنُ، ونوف بهذا كلّه لا تبحثُ عن صفةٍ مطلقةٍ لتكونها، أو لتتكسّب من خلال الكتابة ودّ ناقد هنا، أو ناقد هناك.. وبإصرار واعٍ أو بدون ترفض نوف بنت محمد أن تخضع لصيغة أدبيّة تُحدّد لها تضاريس الرحلة إلى عالم الأدب أو الإبداع، بل تترك فيما تترك لجناحيها، اختيار المقام الشاهق ذي الاتّساع، دون جهل عمّا يتلطّى في القيعان من أشباه، تنتشلها مذمومة مدحورة من ظُلاميّة النفس والفكر والخيار، ولا تضنّ عليهم بحقّ الدفاع عن الذات تماماً كما تملك حروفها حقّ وأدهم خلف السطور أو التلاشي في غياهب الهوامش، كما في النصّ المعنْون "قناع " على متن الصفحة -23 – حيث تسلّط حرفها شاهداً على مراوغة الآخر إذ تقول:
/بعد عناء يوم حافل بالزيف
وبعدما قطع شوطاً في مغازلة الشمس،
متشدّقاً بالإيديولوجيات والعقائد،
بدا متجهّماً وهو يفتح باب عالمه مرتجفاً كسارق،
تاركاً نظراته معلّقة على المفاتيح البليدة،
ثمّ أقفل الباب خلفه بصريرٍ مزعج../
لا يمكن قراءة لأنها أنثى غير قراءة متأنيّة لكنّ المقام إن يتّسع لبضعة نصوص فهو بالتأكيد سيجحف حق النصوص الأخرى بالتقصير وهنا المعضلة إذ يصعب المفاضلة بين نصّ وآخر عند نوف بنت محمد فمعظم النصوص إن لم تكن جميعها أهلا للمرور عبر المجهر النقدي، إذ أنّ نوف بنت محمد لديها الكثير كي تشير إليه كأنّ تحجّم الرجل العابث مثلا بعنوان لافت ك"تفّاحة " حيث تختزل فيه مشهد الجدلية القائمة بين اثنين ينقصهما التكافؤ حيث الترف وحده لا يغطيّ كبرياء المرأة التي بوسعها أن تقول: "جاذبيّتك لا تكفي لإسقاطي ..." ، وهناك المجتمع الثرثار أخذت على عاتقها تعريته في سيناريو متكامل عن أم تكفّلت تربية وحيدها بعد رحيل الزوج فلم يكافئها ابنها بأقل من الإدمان ففضلت علاجه خارج مجتمعه على أن يُقال انه "تربية مَرَه " وهذه قصص من صميم الحياة ولبّ المعاناة التي تعيشها المرأة بمأساة مزدوجة أولها الخيبة فيمن تضع فيهم عمرها وجهدها وآمالها وثانيها نظرة المجتمع التي لا ترحم، وليست وحدها لغة نوف بنت محمد المعبّأة والمعبّرة هي الكفيل الضامن للاحتفاء بكافّة النصوص الواردة في المجموعة، بل هناك القضايا التي تطاردها نوف بأدق تفاصيلها الإنسانية وتعيشها كهواجس لا يمكن التغاضي عنها أو تحاشيها بأي شكل من الأشكال فتمررها إلى القارئ كرسالة عاجلة لا بدّ للجانح أن يُدرك جنوحه ويتّعظ بشكل أو بآخر وما أكثرهم، كما في "حياة مؤجلة " التي توجز الهدف بالقول: مات قبل أن يبلّغها/ ولو قدّر اقتناص هذه الجملة الداخلة في سياق النصّ لتنفرد على حده، فهي لاشكّ كافية لتقول ما ينبغي أن ندركه جميعا من حتمية الموت، وتساهلنا في الانتباه إلى كارثة اسمها المماطلة تتغلّب على قراراتنا ولهفتنا وإرادتنا عموماً.
بصعوبة أجدني مضّطرة لأغلق باب محاكاة النصّ عند نوف بنت محمد مراعاة للإسهاب التي يتكامل مع حرص نوف على الاقتضاب في النصّ لامتلاكها كامل زمام الفكرة دون اللجوء إلى أيّة زوائد لفظية، يكفي القول أخيرا ان نوف الممتلئة بالمشاعر لم تستنزف مشاعرها لتعرب عن لواعج الأنثى كما هو شائع في الأدب النسوي في الغالب بل بدت في كلّ حرف خطّته المعنية والمشغوفة والمهجوسة والحريصة على مجتمع نقي متكافئ ومتكامل ومتوازنٍ ورصين، على مجتمع فيه الرجل رجل بكل ما تطمح إليه الأنثى، وفيه المرأة امرأة بوسعها أن تكون الأنثى الواثقة التي إن أعطت فما من مُستغلّ يتربّص بها، وإن أحجمت فثمّة آخر يعوّض تقصيرها، فهنيئاً لمجتمع أصبحت فيه الكلمة الحرّة كلمة هادفة بالاعتبار الأول وقد استطاعت نوف بنت محمد في مجموعتها "لأنها أنثى" أن تُحررها فعليا من المجانيّة التي شاعت واستفحلت في الأدب النسائي السائد، وتقدّمها بجرأة وجدارة يستحقها القارئ وينتظرها بالتأكيد.

 

=========================

 


لأنها أنثى” نوف الثنيان مجموعة قصصية تقوم على السرد والسخرية
الصحفي الشاعر / لامع عارف الحر

تأتي نوف الثنيان، إلى الكتابة من باب الشعر، تفتحه على مصراعيه وتغوص في طياته، كأنها تريد أن تعطيه ماهية الوجود وكنهه الميمون.
لا تكتب لكي تكتب، بل لأن لديها احساسا عميقا بما تشكّله الأشياء في عالمها من انشغال بتفاصيل، تتماهى ويومياتها التي تنسكب من طيات قاعها رؤيا أخرى، وأفقاً يتجاوز الحدود، إلى مابعد الحدود.
كأنها الأنثى التي تكتب، وتكتب، لكي تعيد صياغة الحياة على إيقاع نبض جديد، يأخذ من معاناتها ومن فضولها النسائي معاني تنغرس في الوجدان الذي يؤسس لبناء جديد، وعلاقات جديدة، وعالم لم يكن ضمن طيات الافتراض
كتابتها مشروع تحرّر، يقوم على صياغة جديدة للمفاهيم، تأخذ من أصداء قلمها بيرق وجودها، وثراء حلمها، وآفاق نبضها الذي يتهادى تحت وطأة الحلم الذي ينبجس على إيقاعات شغفها وشغبها الذي لا يُهادن، مشاغبة نوف بنت محمد إلى حد المغامرة، التي لا تعرف التراجع ولا تعرف الانكفاء، ولا تعرف إلاّ بلوغ الغاية التي تتجلى هناك على بُعد مرمى من الضوء الذي ينبجس كأنه صيرور الحياة التي تريد.
تغوص في عالم المرأة من قمة رأسها إلى أخمص القدمين، تفضح مافي أعماقه من خفايا. ومافي أحشائه من معضلات، تتمدد في ثنايا يومياتنا، وكأنها الاخطبوط الذي يُطال كل شيء، ويلدغ كل شيء غير آسف على ماضاع، أو على ماسوف يضيع.
إمرأة من تجليات، تكتب ماهو تحت الضوء، ماهو في العتمة أو مانظنه في العتمة، لنقرأ جيدا عالم المرأة الذي يؤسس علماً جديداُ على ضوء التناقضات التي يعيشها أو التي يقوم عليها.
سيدة الحس الأنثوي الرفيع بجدارة، تمتلك ناصية الإبداع تتوغل في مساماتها، لتنكشف ملامح الواقع، بكل مافيه من دفء وبرودة، وبكل مافيه من قبح وجمال، لا تتوجه في نصوصها إلى إمرأة واحدة، ولا تنكشف رؤاها أمام عري الكلمات، ولا تستضيء بنجم لا يتحدّر من أفقها الأعلى، ولا تتهيّب الغوص في أعمق الاعماق، لكأنها المارد السحري الذي يمتثل له مصباح علاء الدين ليعطي النص بُعده الانساني النبيل، وبعده الابداعي الاخاذ، نقرأ نصّها بانسياب لافت، بعذوبة فاتنة، بخرافة الوصول إلى الأشياء، وبالقدرة على اقتحامها، لكأنها تحمل بمفردها مصباح الدجى، لا لتضيء من حولها فحسب، بل لتضيء كينونة عالم، ملّ الركون إلى العتمة، وسئم الاستسلام لآفة النسيان
نصوصها قصة في سياق قصيدة، أو قصيدة في سياق قصة..
على ضوء قلمها، ينصهر الفنان في سبيكة واحدة، تعطي الابداع مداه الجمالي المنشود، نصوصها سرد لايخلو من الشعر، أو شعر لايخلو من السرد، أو لكأن السرد ينهمر بعفوية وتلقائية فتنجذب إليه لكأنه المدى يرتدي ثوبا مزركشاً من الكلمات المشغولة بأنامل ساحر محترف.
تسرد كمن يحكي بلا رتوش، كمن ينفتح أمامه العالم، ليختار منه مايحلو من جواهر أو درر لا تقول ماتقوله بعيدا عن الرؤيا، بل تصيب الهدف كصياد ماهر وتحوم حول فريستها كأنها تريد أن تلتقط النهاية من ثنايا تعاقب الحدث الذي لا ينتهي.
لا تصل في سردها إلى النهايات المعهودة، لا تسرد كي تصل للعقدة، ولا ينفتح باب الحل أمام العقدة إذا وجِدت، بل تستمر في سردها لتصل إلى نهاية، قد تكون النهاية التي يرجوها القارىء، أو قد تكون عكس ذلك تماما، أو قد لا تكون هناك نهاية أصلا.
” لأنها أنثى ” تكتب ولأنها أنثى تعرف ماذا تكتب، ولمن تكتب، ولأنها أنثى تدري ان نصف المجتمع في زماننا العربي البغيض على الهامش، موجود وغير موجود، لا يلتفت إليه ككائن، له فعل، وله دور ويسهم في إخصاب الأرض، وفي أعطاء دوة الحياة كنهها الإشراقي الذي يفيض سطوعا.
ولأنها أنثى تدري مايدور في خلد كل أنثى، ماتعانيه، وماتروم إليه، مايؤرقها ويقلقها ومايهدّىء روعها، وما يعطيها الاحساس بكينونتها الأنسانية، وبدورها الأساسي في صنع الحياة، وفي بناء مداميكها حجرا حجرا.
ليست نساء قصصها كلهن ضعيفات، حقوقهن مهضومة ويتمنين السترة، بل هناك نساء قويات، وقادرات على مواجهة شدائد الحياة بتمردهن، بعيدا عن أي مساعدة، وكأنهن يمتلكن إرادة فولاذية، تجعل الواحدة منهن قادرة على أن تسخّر بساط الريح لإرادتها، لتمتطيه وتحلّق إلى آفاق الله الواسعة.
” بساط الريح ” القصصي قبض يديها، لا يهدأ، ولا يستقر على حال، يمضي بها في متاهات واسعة، لا قرار له ولا ميناء، موغل في كل الجهات، وماض إلى عالم لم يطأه أحد سواه، كأنه مولع بالابتكار الذي ينحدر من دفء الكلام إلى لهب اللغة التي تتأجج على وقع الإيغال في حرارة الاشياء وفي بريق أسئلتها التي لا تعرف الاسترخاء.
“لأنها أنثى ” الصادر عن دار الانتشار العربي لنوف بنت محمد كتاب من الزمن الابداعي الموغل في الندواة، المخضّب بالنار، المتوّج أكاليل حب وغار، والمدجج تجارب انسانية فيها من الحرارة قدر مافيها من الجمال، لكأنها تكتب بحبر جديد للمرأة الكائنة، أو للمرأة التي سوف تكون، تكتب كأن وراءها عمراً من الكتابة، من النصاعة، من البياض الذي لا يستكين، ومن الطهر الذي لم تلوثه براثن الزمن العتي، ومن الألق الذي تكتمل نضارته مع الانصهار في حمى كلام لا يعرف المهادنه، قصص من زمننا، من الواقع، من ساحة الأول، من ذلك الرفيف القصي، من برج ليس عاجياً، من فسحة الضوء التي لا ترى في الضجيج غير مساحة من الحرية، ولا ترى في الحياة غير فرصة، علينا اقتناصها لنتزود بما تغدقه علينا، ولنأخذ العبر من الوقائع والتجارب المريرة، التي تنسل إلى الاحشاء وكأنها العوسج.
تكتب القصص القصيرة، القصص القصيرة جدا، كأنها تروي لي أو لك، أو لكل من يريد أن يأخذ من الكتابة جوهرها السني، بعيدا عن الحشو والتكرار والكلام الذي لا يفضي إلى شيء، تكتب غير آبهه. حسب مايبدو؟ بالمعايير النقدية، بالتنظيرات، بالاساليب المتبعة، برأي فلان أو علتان. تكتب لتكون نفسها، أو لتتجاوز نفسها أو لتقول هذا نصي بكل مافيه من خصوصية تغوص بعيدا في الاصول، او تنجذب كثيرا إلى الحداثة بكل مافيها من اختلاف، ومن جمالية، تؤسس لنص جديد، يكتنز نص نوف برؤى مغايرة، بسرد مشوّق، وغير تقليدي، بنفحات شعرية تقارب الواقع، وتتجاوزه في الآن نفسه، لكأنها تريد ان تبني نصها على اسس لم تألفها الذائقة النقدية العربية
القصة؟ القصيدة.. تحضر في كتابها حضور البرق، تسطع لحظه ثم تغيب، لا لكي تغيب، بل لكي يكون لذلك الدوي اثره في تماوجات النفس الداخلية، قصة تروي سيرة الرجل الشيطان الذي يحترف الغواية، ويعمل على اسقاط ميراث العفة في زماننا العربي، متناسيا حاله التي ليست اكثر من فقاعه وسط العتمة، تقول ” سماؤه فقاعة، سرعان مانفقأت في كونه المعتم، مارد قادم من أقبية الشيطان / من دروب الغواية /يقتحم الأزمنة العفيفة / يتصيّد الاطياف الهائمة / ثم يتجاهل النظر إلى المرآة “.
لا تتناول المرأة الحالمة فحسب، بل المرأة الواقعية ايضا، المرأة الراسخة التي لا تؤخذ بالمظاهر، المرأة التي تغوص عميقا في الاشياء، او ترى ماهو أبعد، كأن المرئي هو الحقيقة الوهمية التي تغش من كان معتل البصيرة
تقول ” تلفتت حولها.. لم تجد إلاّ سيارة فارهة / وخواء في خارطة اللحظة / ارسلت اليه: جاذبيتك لا تكفي لاسقاطي “.
لا تكف نوف عن الغوص في مسائل حساسة، كأن شغبها الجميل يسعى الى الاكتمال بحثا عن الضوء الصارخ في العتمة، كأنه الحقيقة التي لا تقبل الانحلال والانصهار في زيف الزمن القائم. فالدين ليس مجرد شكل، أنه رؤية إلى الحياة، ثقافة تنير العقل والقلب، أمّا السطحيون فيتناسون الجوهر، ليغوصوا في اشكال تافهة ومبتذلة ولا قيمة لها في المعايير التي تأخذ من الاشياء كنهها والمغزى العميق من خلقها، ” ولأنها أنثى ” فهذا لا يعني انها تتغاضى عما ترتكبه المرأة من اخطاء، لا بل تركّز عليها لأن الأنثى المثال هي الأنثى التي تتجنب الخطيئة، لتعطي الربيع معنى زهوه واخضراره.
بأسلوب سردي جميل تغوص عميقا في ظروف الخيانة، التي تنتج الفراق حتما، والتي تدعوا المجتمع الذي يحيط بها إلى اتخاذ موقف سلبي منها، فتفقد المرأة ذلك الضوء الذي ينير العالم من حولها، وتسقط في فضاء من العتمة قاس، لا رحمة فيه ولا مناص منه أو فرارا، لكأنه الزنزانة التي دفنت فيها مرايا حياتها المقبلة.
تطرح نوف بنت محمد ماتطرح بصدق بأمآنة، بهدوء، كأنها تريد أن تسلّط الضوء، ان تلفت الانظار، وان تدق جرس الانذار، لعل هناك من يسمع ولعل هناك من يسعى الى شيء من التغيير او التطوير، يقوم نصها، على السرد فقط، الرد الخالي من الحوار الذي يسهم في إعطاء النص شيئا من العذوبة والليونة، إلاّ ان ذلك لم يؤثر كثيرا على جماليته وعلى هضمه وعلى صعوده الدرامي وتناميه الجميل.
وإذا صوّر ( قاسم امين) المرأة مظلومة ومحتقرة، فإن نوف تجاوزت هذه الصورة عبر رفضها لها، المترافق مع العمل على ان تحقق الانثى شخصيتها المساوية للرجل في الشكل والمضمون.
انها قاصّة متمرّدة، تعرف ماذا ترفض، وتعرف ماهو الدليل وتسير في هذا السياق، بحثا عن كينونة الانثى التي تريد.
صوّرت القمع الواقع على المرأة والظلم الذي يضيّق حريتها منتصرة للإرادة الانثوية التي تريد ان تحقق انسانيتها بشكل كامل، وان تفرض وجودها الفاعل على حركة المجتمع.
تعرف كيف تستخرج الكلام من العبارات الشائعة، بما يشبه التناص كقولها: ” حين افترقا كان اللقاء ثاثهما ” والقول المعروف ” ما اجتمع رجل وامرأة إلاّ وكان الشيطان ثالثهما ” وتقول ” من شب على ذنب شاب عليه ” والقول المعروف ” من شب على شيء شاب عليه ” وتقول ( كان دوما يرفض أن يقدم لها الطاعة على طبق من برّ ) والقول المتدوال على طبق من فضه او من ذهب، وتستمر في اللعب على الكلام بالقول ” غفلة عشاء” وهي ” حفلة عشاء” وتقول كان ” آيلا للظلام ” والقول المعروف ” آيلا للسقوط ”
نصوص نوف بنت محمد تنهل من بئر السخرية المرّة، بحرارة المشتاقة إلى خلاصها الموعود، والمتأهبة لمعانقة الحلم الذي يتفتح على يديها، وكأنه الورد الذي يولد اشراقه الساطع.
قاصة آتية من دفء الخيال المنصهر بجبلة الواقع المأزوم انصهار الماء في التربة، لاعطائها شيئا من الخصوبة والجمال.
نصوص تقرأ بيسر وسهولة لا ملل، يعتريك ولا سأم، بل رغبة في المتابعة للوصول إلى النهايات التي لا تبالغ في تأزمها، وكأنها تريد للواقع ان يكون أكثر دفئاً وأكثر أنسانية.


لامع الحر
مجلة الشراع
August 7, 2010

مقال الشاعر لامع عارف الحر في صحيفة فوبيا

 

إصدارات أخرى للكاتبة

                  

 

جميع إصدارات الكاتبة متوفرة في كل فروع مكتبة جرير بالمملكة

ومتوفر أيضاً في المكتبات التاليه في الرياض

( مكتبةدار المناهل بكل فروعها  , مكتبة دار الفلاح  , مكتبة الداود بفرعيها , محبرةالطالب - البديعة  , مكتبة مكتبتكم  , عالم القرطاسية , مكتبة خالد شامان "2" , مكتبة المحسن للكتاب , مكتبة دار القافية . مكتبة الضحيان )
جده

( مكتبة دار الثقافة , مكتبة الأسواق السعودية )